من طرف محمد البرغوثي الخميس أبريل 16, 2009 5:20 pmخلال الأسبوعين الماضيين، أثرت فى هذه الزاوية قضية قطعة الأرض التى اقتطعها مقاول من حوش مدرستين حكوميتين وأقام عليها عمارة ضخمة فى شارع أحمد الصاوى بمدينة نصر، والحقيقة أننى كنت قد قررت ترك هذا الموضوع بكامله للقضاء بعد أن استجاب محافظ القاهرة الدكتور عبدالعظيم وزير يوم الخميس الماضى وأرسل لجنة ثانية قامت بإيقاف أعمال البناء تماماً.
ولكننى تلقيت اتصالاً بعد نشر المقال الثانى من أحد القائمين بالبناء، دافع فيه عن موقفه وأصر على أنه يمتلك «مستندات» أصلية، تؤكد بما لا يدع مجالاً لأى شك، أن رخصة البناء رقم ٤٦ لسنة ٢٠٠٣، الخاصة بهذه العمارة، رخصة صحيحة وليست مزورة، وأنها مبنية على حكم قضائى نهائى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبعد يومين جاءنى هذا الرجل ومعه عدد كبير من المواطنين، وإذا به يضع أمامى حافظة مستندات ضخمة أخذنا جميعاً نقلب فى أوراقها ونقارنها بما تحت يدى من مستندات اعتمدت عليها فى كتابة ما كتبته الأسبوعين الماضيين.
كانت المفاجأة التى أذهلتهم قبل أن تذهلنى، هى أنه لا تناقض بين أوراقهم وأوراقى، وأن الأوراق التى يستندون إليها، بما فيها الحكم القضائى النهائى، تنطوى على خدعة كارثية، انطلت عليهم جميعاً، ودفعتهم إلى دفع شقاء أعمارهم فى شراء قطعة أرض مساحتها ١٣٣٩ متراً مربعاً فى شارع أحمد الصاوى بمدينة نصر، وهم على يقين كامل بأنهم على صواب.
والخدعة البارعة تتمثل فى دعوى قضائية شديدة البراءة رفعها ٣٤ رجل أعمال عام ٢٠٠٢ يمتلكون قطع أراض مختلفة المساحات فى أنحاء متفرقة من حى شرق مدينة نصر، يطالبون فيها «بتطبيق القواعد العامة فى قانون المبانى لتكون ارتفاعات المبانى المسموح بها مرة ونصف طول المسافة بين حدى البناء وأن تكون المبانى بالدور الأرضى ٦٠٪، وأحقية المدعين فى عمل أنشطة تجارية بالدورين الأرضى والأول، والباقى سكنى».
وخلال مراحل التقاضى وجلساته المتعددة، لم يهتم «محامى الحكومة» إلا بالحديث المتكرر عن اشتراطات البناء فى المناطق القريبة من المطارات.. وتغافل تماماً عن أن بعض قطع الأراضى موضوع الدعوى ليست مخصصة فى الأصل للنشاط السكنى، وأن القطعة رقم ٣ بلوك ٩٤ بالمنطقة السادسة تحديداً تم تخصيصها بقرار جمهورى لبناء مدرسة ثالثة وحضانة عام ١٩٩٨، ولا يجوز إطلاقاً تغيير طبيعتها من تعليمى إلى سكنى إلا بقرار جمهورى آخر، أو على الأقل بقرار من المحافظ يتم نشره فى الجريدة الرسمية.
وفى النهاية صدر حكم قضائى نهائى بحق المدعين فى أن تكون ارتفاعات البناء المسموح بها مرة ونصف طول المسافة بين حدى البناء فى الشارع، ولم يتعرض الحكم من الأساس لأى شىء يخص تغيير تخصيص الأرض من نشاط تعليمى إلى سكنى، ورغم ذلك سارع المقاول الذى اشترى قطعة الأرض من «شركة مصر لإقامة المدارس ودور العلم»، بتقديم الحكم القضائى إلى حى شرق مدينة نصر، واستخرج بموجبه ترخيص البناء رقم ٤٦ لسنة ٢٠٠٣ لإنشاء عمارة سكنية مكونة من بدروم وأرضى تجارى و١١ طابقاً سكنياً بكل طابق ٦ شقق، والكارثة أن هذا المقاول باع الأرض بعد ترخيصها لحوالى ٦٦ مواطناً شكلوا اتحاد ملاك وأنفقوا كل مدخراتهم فى بناء هذه العمارة الضخمة لتأمين مساكن لائقة لأبنائهم وبناتهم، دون أن ينتبهوا لهذه الخدعة الكارثية.
والمحصلة أن هؤلاء الناس هم أيضاً ضحايا، ولهم حقوق فى رقبة محافظ القاهرة بصفته، ولا ينبغى أبداً أن نترك تحالف فساد «المقاولات والمحليات» ينعم بما سرقه، بينما الضحايا من الطرفين يتعاركون ويستهلكون أعمارهم ومدخراتهم فى ساحات المحاكم.
